هل يعبّر الدكتور نبيل طعمة عن تجربة الحب لديه بالتوسل بعقيدة العشق الإلهي الصوفية بمصطلح إنساني أو بالعشق الإنساني بمصطلح صوفي؟! مجموعته الشعرية الصادرة عن دار الشرق للطباعة والنشر (1432-2011) تثير مثل هذا السؤال.
"أشرب نخبك" عنوان المجموعة ينتمي إلى عالم السكر والفرح لكنه لا يقود إلى السفر الروحي الذي تعبر عنه المجموعة، إنها رحلة من الفناء إلى البقاء كما تشير مقدمة هذه المجموعة الشعرية التي هي في الجوهر سفر روحي من الأنا البشرية إلى الهو الصوفية.
ومابين المقدمة والرحلة الشعرية خيوط تهتز بين الروح والجسد والاهتزازت التي تلامس أذواقنا إن هي إلا تجليات الشاعر التي أضاءت عتمة الأنا بأنوار الهو، عن طريق الوجد الذي أدخل الشاعر إلى العالم الكلي.
والسؤال هو: هل التعبير عن الوجد الصوفي ممكن خارج النفس البشرية ووسائلها المعرفية أو أدواتها الموغلة في الحواس؟. وهنا موقع الأزمة؛ الشاعر متورط بأزمة حب روحية لا يستطيع أن يعبر عنها بغير الصورة المادية والتعبير عن المعنوي بالحسي غالباً ما ورّط الصوفيين بل كبارهم بأزمات داخلية في الروح كان لها مصاحبات مأساوية في الحياة والموت.
من الحلاج إلى محيي الدين بن عربي إلى السهروردي. الأول صُلب في بغداد بفتاوى فقهية وجدت في تصوفه خروجاً من الوحدانية إلى التناسخ والثاني اتهم بالخروج من وحدة الشهود إلى وحدة الوجود أو التجسد الكوني والثالث نعت الواحد بالمتعدد من خلال عقائد النور والظلمة فقتله الأيوبيون في حلب.
أما مجموعة "أشرب نخبك" فتتمحور حول الحب إنطلاقاً من مفهوم العشق الإلهي لكنها ليست غزلاً وهي لا تستخدم الغزل لتعبر عن تجربة العشق السماوي لكن اللغة والصياغة والصور وما تتضمنه من تجربة شعرية إنسانية تندرج في الغزل ومصطلحه.
كما في "ترجمان الأشواق" أهم عمل شعري لابن عربي يعبر فيه عن العشق الصوفي. نظمه ابن عربي في نظام بنت شيخ من مشايخ مكة في عصره في الغزل والحب. ولكنه كما يدافع ابن عربي عن العشق الصوفي والجمال وهو اسم من أسماء الله الحسنى فنظام هي رمز هذا الجمال وسبيل ابن عربي في التعبير عن عشقه الإلهي.
إلا أن قصائد ابن عربي في ترجمان الأشواق لا تختلف عن الشعر العذري كما نعرفه عند جميل بثينة وقصائد قيس مجنون ليلى ممّا دفع خصوم ابن عربي إلى اتهامه بأنه كان يتغزل بنظام كما كان جميل يتغزل ببثينة وقيس بليلى.
وحامت الفضيحة حول ابن عربي من جراء هذا الاتهام فدفعه ذلك إلى شرح ديوان ترجمان الأشواق في إطار العشق الإلهي والحب الصوفي الذي يتخذ من الجمال رمزاً لخالق الكون ومبدع البشر.
أما مجموعة أشرب نخبك فليست موجهة إلى ليلى أو نظام ولاتتخذ من عالم الجمال كناية عن الحق الذي هو جوهر الكون والطبيعة والبشر.
إنها أي المجموعة في المقدمة كما في النص الشعري تعبّر عن العشق الصوفي ولكن بمصطلح الحب الإنساني ولكن المفاهيم والأفكار والعقائد هي من صلب الفكر الصوفي وتاريخه.
وتكاد تكون مجموعة "أشرب نخبك" ملحمة عشق غنائية عن الإنسان والله.
وتكرار أشرب نخبك على رأس كل الأناشيد كعنوان يشكل إيقاعاً موسيقياً للقصيدة يتردد ثلاثاً وخمسين مرة. أضف "خمرك يدعوني للسكر" و "ياصاحبي" و "ياصاحب الحان" كل منها مرة واحدة منفردة وكلها تؤكد على السكر الصوفي الذي يتخذه شاعرنا جسراً بين اليقظة والنشوة.
وأشرب نخبك فيها انعطاف على طقوس الشرب وسمو بلغة الحب إلى اهتزازات النبض الإنساني بين الصحو والسكر.
والإشارات أسلوباً وصياغة قريبة من الشعر المنثور والدكتور طعمة يستفيد من هذا القرب فيطعم قصيدة النثر بأسلوب الإشارات بما يتلاءم مع الاهتزازات الروحية والإضاءات المفاجئة للحدس الذي يتمركز في عقيدة الوجد أو العشق الصوفي عنده. ومجموعة "أشرب نخبك" بالإضافة إلى صلتها بالإشارات فإنها تتميز بكونها أغنية وجدانية مطولة عن التجربة الصوفية الحديثة التي تنعطف على الجذور وتنبثق من هذا الانعطاف صورة متسعة عريضة بوحدة موضوعية وفنية في آن.
فهو يشرب نخب أثينا ونخب فينوس وهوميروس ونخب اللات وعبد مناة لكنه يصحو ويكتشف أنه لم يسكر فيرمي بذاته في نهر خمر الواحد:
أمحو كل كؤوس الخمر
السابقة وأطالب
ذاتي التواقة
للسكر
أن السكر في بحر
فنائك
والنشوة بالواحد تمحو المتعدد وتحوله إلى ألق يتوحد معه وترجع الذات إلى بارئها بفناء الأنا في الهو.
فالله واحد والعالم واحد والدين واحد، وهكذا يتعاون في تجربته ميراث التاريخ وشعلة الروح ليبلغ فجر اليقين.
وفي نشيد آخر يقول:
فأنا بعض من روحك أخلع ثوبي
أتعرى
كي أغدو مثل سمائك
والدكتور الشاعر يتحول بالمفاهيم الصوفية من عالم التجريد الفكري إلى التشخيص الحسي، والتجربة الإنسانية في ألق الحب وهذيان السكر في قصيدة نثر شعرية تمزج العرفان بالنشوة والعذاب بالنور وتتسلل من عالم الجسد إلى عالم الروح تواتيها الفكرة والصورة.
ويتعامل شاعرنا مع الذاكرة والتراث الصوفي وتاريخ تجربة الإنسان الدينية من خلال الوجدان فتتحول الفكرة الموروثة إلى بارقة وجدانية في عالم إشراقي جوهره نور التجربة الإنسانية.
الصحو والسكر الصوفيان يعرجان به إلى العشق الإلهي الذي تمثل أول ما تمثل عند رابعة العدوية وعبّر عنه من جاء بعدها بالوجد. محبة الله لذاته لاخوفاً من النار أو رغبة بالجنة يقول شاعرنا:
لا أرجو الجنة
ولا أخاف النار
بكوني أؤمن بالعشق
ومهاب الجمال
وفي قوله "أنا أنت وأنت أنا" يختزل هتاف الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وتلمح في إشارته عن الجزء والكل نبض بن عربي
عقلك الكوني الكلي
عقلي
أو حين يقول:
اقبلني يا كلّي
روحاً من روحك
وإشارات شاعرنا لاتكتفي بمأثورات كبار المتصوفين ومقولاتهم الشهيرة بل يعود من خلال تجربته الوجدانية إلى تاريخ التجربة الدينية فيرى أن العالم واحد والله واحد فتتكامل الأديان ويعانق الصليب الهلال وتتألق نجمة العرفان في عتمة العالم وتتألق الذات لتضم بالحب الكون كله.
من أبرام (إبراهيم) إلى موسى إلى عيسى إلى محمد رحلة روحية واحدة للخروج مع يونس من بطن الحوت والإشراق مع فجر واحد للإنسان مثبتاً الإيمان الصوفي بأنه لاشريعة بلا حقيقة ولا حقيقة بلا شريعة. وتكامل الأديان التوحيدية لم يفارق الذات الصوفية في رحلتها عبر العصور والتأكيد مع ابن عربي أن الأنبياء كلهم سلالة روحية واحدة.
إلا أن شاعرنا في أغنيته الروحية المطولة توسل الحسّ كما توسل الفكر للتعبير عن وجده الصوفي بداية في المقدمة وانتهاء بالنص الشعري.
والخروج من الصحو إلى السكر ومن اليقظة إلى النشوة إن هو إلا استغراق في الحس يتناول تمام الجسد والفكر والنفس رغم تسلل السكران سراً إلى الكلي في تعبير الشاعر لينسيه السكر زمانه ويؤمن بالعشق.
ليخرج من جلده ويعرج بالروح إلى عالم الأنوار فيستضيء العقل وتستضيء النفس ويستضيء النبض ببريق الكأس ونداء الحب فتختار شفتاه شفاه المحبوب تمتص رضابه، ولعمري هذه كلها صور مغرقة في الحس ولكن الشاعر رغم هذا الاستغراق الحسي يرتفع بالنور إلى اليقين:
أرى ألقك
يضم النور
منفعلاً ومرتجفاً
أهزّ الكأس
أرى موجك
يبحر منه إلى شفتي
عبر شفاهك
يريد عناقاً
من لثمك
من كونك
من كلك
من بعضك |