إلى إسكندر الإسكندرون
عندما يقرر السوريون أنَّ الجولان في القلب، فهذا يعني لهم أنَّ إسكندرون في العقل، لذلك نجد أنَّ صاحب المخطوط المحمول بين أيدينا بإرادة، أن يقع ضمن دائرة اهتمام بصرنا، لغاية تفعيل بصيرتنا.
اختار عنواناً ليس مهماً فقط، بل جريء، لا يشاغل فكر السوريين أينما وجدوا، بل أكثر من ذلك، يستخلصه من فكرهم وفكره، ينثره عليهم مذكراً إياهم بأهميته على الرغم من معرفتهم بحاجتهم إليه، وأنه يمثل لهم جزءاً من جسدهم الجغرافي ونسيجهم الاجتماعي الذي يشعرون باغتصابه، وأنَّ لا محالة لاكتمالهم إلا بعودته إليهم، وإن كانت خاصته الفكرية دعته لاستعادة مسقط رأسه وتجسيده الفريد لمبدأ مسقط الرأس، ومفهوم الارتباط بين الأعضاء بالجسد، والأم بالولد وما يعنيه، والأب بالأسرة لأي إنسان يشعر بالاغتراب منه، أو الانفصال عنه، ليكون همه الشاغل، على الرغم من أنه يحيا ضمن وعلى جغرافية الوطن الأم، إلا أن استشعاره بما ينقصه، يأخذ به للتطلع عليه برجاء التئامه واكتمال وجوده الذي يؤمن بحدوثه عاجلاً أم آجلاً، لا يتم إلا بالتحامه معه، والتحاقه فيه.
إسكندرون إلى اللقاء.. بعد أن قال والده لحظة أن خرج منه وداعاً نتاج ظروف استثنائية طارئة وضاغطة، أدت لنزوح سكانه العرب السوريين قسرياً سنة وعلويين، وأرمن ومسيحيين بعد سلخ لوائهم إسكندرون عام 1939، وبعد أن كان يعتبر ومازال المحافظة الخامسة عشرة من خلال صدور مراسيم التقسيم عام 1926م.
إن انطلاق الاحتجاجات العارمة، واعتبار لواء الإسكندرون أرضاً محتلةً ونزوح العديد في ذلك العقد الفريد منه إلى دمشق وحلب وحمص واللاذقية، واستقرار عائلة صاحب مخطوطنا في دمشق، كان لهم وله الأثر النوعي في استحضار التاريخ الذي جهد الأتراك، ومازالوا يعملون على طمسه ومحوه، ليس فقط من ذاكرة الوطنيين السوريين، وإنما من ذاكرة العالم، لأنه يؤرقهم، ويقضّ مضاجعهم، وبحكم أن علمه وفكره وأدبه وذاكرته تأبى من إباء السوريين ووطنيتهم وانتمائهم الذي لا حدود له، إلا أن تنجز له حضوره الدائم، وأنه وهو في هذا العمر الذي بلغ مع صدور مخطوطه الثامنة والثمانين من العمر الزمني، وكان في عمر وصوله إلى دمشق عشر السنين، نجده ممتلئاً بالإصرار على إحياء الذاكرة الإنسانية من ذاكرته المسكون فيها دفء المنبت، وحنين العاشق إلى المسقط، وهيام الودود إلى مبتغاه. كيف لا يكون على ذلك، والمؤرخون العالميون وهو واحد منهم، أطلقوا على اللواء السليب بأنه يمثل لسورية، كما تمثل منطقتا الألزاس واللورين لفرنسا، وكذلك ميونيخ الشرق؟ حتى إن دزرائيلي المتحدث عنه بأن مصير العالم سيقرره يوماً ما، وأنا كسوري أقول: إنه بمنزلة العقل للجسد، وهو يسميه أيقونة الشرق.
لا شك أنَّ لكلٍّ من اسمه نصيب، وأن يمنحه والده الجميل جميل الحي الخالد روحاً رحمه الله اسماً فريداً ونادراً، استوحاه من عشقه الرباني للإسكندرون، وللإسكندر الأكبر، لم يكن مصادفة أو حدثاً عابراً، وأيقن أنه رأى في ابنه ما لم يستطع أحد أن يراه، وها هو وصل إلى أن يخط بين دفتي مخطوطه عشقه ووطنيته مطلقاً عليه: "إسكندرون إلى اللقاء" حيث بذلك يشير إليه بوطنية ندر مثيلها، منبهاً السوريين إلى هذا الجزء العضو المهم، وأنَّ على جميعنا النضال من أجل استعادته.
عندما يمنحني المفكر الأديب الدكتور إسكندر لوقا شرف التقديم لمخطوطه، يشعرني ذلك بعظمة تواضعه وقيمة وقوة خلقه، والتزامه الوطني، وأن ذاكرته النادرة تقدمه على سطور صفحات كتبه التي تجاوزت الخمسين مؤلفاً، يصر في جميعها على مقولة: كي لا ننسى حقاً من حقوقنا الوطنية.
إنه يجسد النبل والإباء مع الإهاب السوري الراقي "إسكندرون إلى اللقاء" مخطوط غير عادي، إنه الاستثناء في زمن الفوضى الفكرية، لذلك أجدني أدعوكم قراء الدكتور إسكندر ومتابعيه للتأمل فيما خطَّه ماضياً وحاضراً وانتظار ما سيخطُّه مستقبلاً.
شكراً دكتور إسكندر لوقا
وإلى اللقاء في قادمات الأيام.
د. نبيل طعمة
|