هكذا وعلى هيئة الصورة في تصوّرها وعلى هيئة كون صورة في دلالتها لا تختزل القصيدة, عند الدكتور نبيل طعمة في ديوانه الصادر حديثاً عن دار الشرق للطباعة والنشر 2012, زمانها.. بل تتماهى مع الزمان بكامله لئلاّ تكون من أجل زمنها مجرد قبول شاعر لقصيدته أو أن تكون مجرد قبول قارئ لقصيدة شاعر؛ إنها توجد في أقاصي شكلها الأخير وفي امتداد شكلها الأول لئلاّ يكون لها بداية وألاّ يكون لها نهاية.. فتبدأ إيقاعاً حيث تنتهي في معناها وتنتهي معنىً حيث تبدأ لتدلّ في شكل شعري يدلّ بدوره إلى قصيدة.. فيها, في تلك اللحظة تكون قد خلقت قصيدة!!.. لا دعوة لتحليل وتصنيف دينامية قصيدة طعمة, طالما أن الكلمة في قصيدة قصيرة وطويلة لا تمتلك تطرفاً في علاقتها مع أشيائها إلا بالقدر الذي يوازي فيه علاقة العقل مع الشكل النهائي للنص المكتوب, فنصّ لا يمتلك مصطلحات جاهزة, هذا ما يجعل منه نصاً تتدفّق فيه الحياة في شكلها, وكأننا الكلمة لأول مرة تتشكّل.. في إطار الخبرة الجمالية التي على شاعر أن يتقن صنعها في قصيدة, تكون نصوص "عرقك عطري" حاملاً لهوية آمنة لعمل فني في قصيدة.. نقرأ من الديوان: (أنتِ \ لا تنثني لي \ وله \ بل اشمخي أكثر \ دعيني أنا أنحني \ لكِ \ أطبع قبلة \ على كامل \ تضاريسك \ أينما مررت \ أشرب نخبك \ لا تنحني \ بل اشمخي أكثر \ تطاولي...)..
تبقي القصيدة عند طعمة شيئاً يبقى مفتوحاً على التخييلي بغية الاحتفاظ بخاصية محددة تشي للقارئ بالخاص وفي ذات الوقت تحمل شمولية فعلية للمعنى يأخذ منها القارئ ما يريد ويترك للشاعر ما أراد, طالما أنه وفي دلالة تحت عنوان "عرقك عطري", لا يتشابه التخييلي بين قارئ وقارئ آخر!!.. وتحت العنوان أيضاً ماذا عن المعنى اللاشعري, عندما يقدّر أن يختبئ بين الحين والآخر المعنى الشعري مثلاً في تغييب مقصود لدلالة محدّدة.. وكأنه شاعر يريد منها أن تكون دلالة مفتوحة إلى كل معنى؛ تبقى مهمة استخراج المعنى على عاتق قارئ يجيد التقاطه.. وبتلك الطريقة لن يبقى مجال لواقع فني في قصيدة ليس له وجود بحد ذاته أن يصبح موجوداً إلا بمشاركة تصوّر القارئ تلك؛ وذلك عندما نكون أمام خلق بنية نصوص لسلسلة من الصور الذهنية هي التي تؤدي إلى ترجمة كل نص لنفسه إلى وعي القارئ.. نقرأ: (لولاك ما كنا \ وما كنت \ وما كان كائن \ ليكون \ لولاك \لولا نانا ولونا \ واللات وعبد مناة \ وأثينا وفينوس \ ما كنت الآن \ أسعى \ إلى لقياك..)..
وبين ديوان "أشرب نخبكَ" للشاعر وديوان "عرقكِ عطري" ثمّة نخب وعطر وعرق.. ثمة رائحة تجعل من النخب عطراً ومن العرق عطراً أيضاً.. هكذا لايكتفي عنوان "عرقكِ عطري" باستفزاز حاسة الشمّ, بل ينتقل إلى كل الحسيّ والمحسوس منبّهاً إلى أن ثمة رجلاً يمشي هنا وثمة امرأة تفوح منها الأنخاب والعطور جميعها.. هكذا يجعل نبيل طعمة من القصيدة ملاذ امرأة في بوحه, ويجعل من امرأة تمرّ بجانب الفجر ملاذ القصيدة عندما لا يجد الشاعر بُداً إلا أن يكتب.. عنه.. عنها.. عنا جميعاً.. فنقرأ في الديوان : (لماذا.. وأنتِ \ الأنثى \ ما معنى أن يرتسم \الفجرُ بكِ \ وأن يجذبني \ إليه العشق \ لحظة ظهورك معه \ ما معنى الأبيض \والأسود \ ما معنى التداخل \ والتراكب والتوافق \ والانسجام \ ما معنى أن يكون \ الحب \ مختزلاً كامل \ المسافات..)..
أشرب نخبكِ.. لدمشق من عرقكِ عطري أيضاً حصّة البدايات من أنخاب الشاعر..: (دمشق \ حاضرة الفكر\وأشجاني\وأحلامي\كائنة تكوين\العشق الأبدي\ وحضور أركان كياني \سوق الحميدية \يحضرني\وشوارع أحياء\الحب المعمورة\بين البابين\بل أكثر\بين جميع الأبواب\الساحة الأموية\مدورة\وكذلك\ساحة عباس وعدنان\وزوايا الفكر معشقة\تلهمها\أحجار بنيان الباني\أشرب نخباً\ممزوجاً من بردى\يختلف عن كل\الأنخاب\يا حاضرة الدنيا\نخبكِ...)..
وكأن القصيدة عند نبيل طعمة نص يرتبط بنصوص أخرى سبقته, وتتطلب كما تطلّبت سابقتها مشاركة فاعلة من هذا القارئ أو ذاك على إعادة نظْمها بطريقة تصوّر له المعنى فيما يريد؛ فتكون قراءة "عرقك عطري" فعل حركة مستمرة موجهة نحو معنى؛ وليست القراءة هنا مجرد تقصي كلمة بعد أخرى!!.. من دون أن تهتم القصيدة عند طعمة بمفاهيم مثل الإلهام أو النبوغ مثلاً, بل وكأن الاهتمام الأساسي هو في أن تثير هذه القصيدة أو تلك طَعمَاً عند قارئها.. طعماً ينفي عن الحب صفة التشابه ويجعل من الجسد رائحة تشي بنضجه وتمارس المستحيل.. هكذا يمكن أن يعرف قارئ النصّ السبب لكتابة مثل هذا النص على هذا الشكل النهائي.. فلا يمكن أن يمرّ القارئ على النصوص ويقرأها إلا من خلال, إضافة إلى المعنى الشعري, إثارة معنى منطقي مباشر يربطه بعالم مرجعي في النص على طريقة الافتراض أن هذا العالم المرجعي يخصّه أيضاً؛ هذا عندما يكون بإمكان المعنى الشعري في هذه النصوص أن ينظمه القارئ بفعل القراءة وهو يتحرّى دوماً العثور عليه.. |