يمتلك النصّ الذي يكتبه حسين عبد الكريم في كتابه "تأبين ملوك الازدهار" والصادر عن دار الشرق للطباعة والنشر 2012, حساسية أن يكون النصّ موارباً في جنسه حدّ أن يبقى مفتوحاً؛ في الوقت الذي يمكن للقارئ أن يعيد لملمة نفسه من مشقّة الصعود والهبوط والانفعال وقيد الانفعال, ويقتنع بأنه لا نصّ يمكن أن يكون مغلقاً أكثر من هذا!!.. تلك المواربة الواضحة بين المفتوح والمغلق في نصوص الكتاب تجعل من صاحبها وكأنه مفتون بلعبة الدوران حول ثقل يرتدّ إليه كلما ابتعد به الوجد خارج النصّ.. وليس الثقل هنا أكثر من كاتب يمشي قلبُه مع النصّ بذات المسافة التي يمشي فيها القلم.. فتحت عنوان (زيزفونة) نقرأ: "بيت يجاور الوجد, ويحدّه من جهة الشرق الاشتياق وسهل العاشق, وحوله في الجهة المقابلة تنام شلالات ورد وتصحو نثريات غيمات الشتاء, المواظبة على قراءة كتاب البحر, والداخلة في امتحانات الزرقة ومذاكرات الزبد وحصص الموج الإضافية."..
في تقديمه للكتاب كتب الدكتور نبيل طعمة: "روائينا لا يستعرض ذكريات؛ بل يرقب بالحب الذي يمتّع به حركة حياتنا اليومية, يتابعها بعين البصير ضمن صوفيته النوعية, وشفافية المرور الأليف بين نواقيس كنائس قلوب المحبين التي تقرع من أجل اللقاء والالتقاء, بغاية الدعوة للتنبّه لا الابتعاد, لذلك نجد أن وصايا الحب وأعمدته قائمة وثابتة وراسخة في ذهن الجنس البشري الذي هو منه, وأن إيمانه بأن من أبدعها أنثى تشبه زيزفونته, ومنه يكون أديبنا يؤصّل مفاهيمها, ويمنحها لقب مديرة الحياة بقلبها الحيّ الخفّاق.."..
في اللغة المتأنية عند عبد الكريم, تسعى الكتابة إلى معرفة نفسها بنفسها بناء على تكوينات وتداخلات معرفية, في التأمل نضجت خصوصيتها.. وفي الأمكنة التي تزخر بها النصوص حالات ترتّب لها مزيداً من احتمالات أن يتواجد فيها بشر آخرون مختلفون أو ربما متشابهون مع البشر التي كتب عنها حسين.. وكأنه لا مجال لحدوث الفعل القصصي وحتى الفعل الروائي إلا ضمن ما يمكن أن يكون بالفعل حدثاً قابلاً لإثارة واستشارة عقل القارئ وقلبه أيضاً بشكل مواز لإحساس وانفعال وتفكير الكاتب؛ إلى الدرجة التي تجعل من التفصيل والجزئي قابلاً لأن يكون كلياً والعكس أيضاً.. نقرأ في (تأبين ملوك الازدهار): "فيها ما في الوردة من دقة أوراق ونعومة عطر, وفيها ما في الغيمة من حضور مُبهِج.. وفي أنوثة عالية الأداء والأبهة, كقرية تحمل على كتفها الرياح والأغصان والثمار والحب والحرص والتآلف مع الذاكرة والآتي والمكان".. ونقرأ أيضاً: "حملت من الجدة شجاعة خاصة, وحازت من الجد ملامح البشاشة والمقدرة على السخاء والأريحية, التي لا تتعدّى الحب والإخلاص للسعادة ورغم كل المشقة وقسوة الواقع بقيت أميرة ببهاء محرر من التصنيع وقيود التكلف: ابتسامتها تنطلق بريئة حنونة, وكلماتها لا تخفي أي خداع أو عيب.."..
ولتبقى نصوص عبد الكريم ضمن الجاذب موضوعات التقطت التفاصيل وأحالتها في لحظتها وضمن الإطار الفني إلى قصة ذات هيكل واحد بلا أن يكون انتقال المتلقي من فكرة إلى فكرة قائماً على تغيير أدوات الشكل التي عوّده عليها حسين عبد الكريم في نصّ سابق مثلاً.. وكأنه لا تفصيل يطغى على آخر ولا حكاية تحكي عن أخرى.. فكيف لها, كيف للحكاية أن تبقى أنثى وبهاء وحب وألفة وذاكرة وآتٍ ومكان وزمان بلا تأبين!!...