جدار الزمن
تنهمر مفرداته مزامير رنَّمها سره المسكون زيتاً في حبات زيتونه التي نثرها تشوقاً وحنيناً، غلف بها وطنيته وعنفوانه الشبابي، حمل الهموم بين جنباته، وجاب بها القرى والمدن والبلدان، صعد هضابها وجبالها، وكان مثله سيزيف حامل الصخرة، يدحرجها من الأعالي، يعود في محاولاته، وهنا نراه يرمي بشعره الوجداني إلى عقول أبناء وطنه وإرادته، ضخ وعي الحب والأمل والانتصار على التخلف والجهل اللذين سادا مرحلة حساسة من زمن وطنه، انقلابات ووحدة وانفصال ويمين ويسار، عايشها بتأمل نوعي، فكان من تفاعلاته معها ولادة ديوانه شمس في كانون، هذا العنوان الصارخ في وجه البرد والفقر والعتمة، جسد فلسفة الانتماء والتجذر والانبعاث من جديد بعد كل تلك الاختراقات المهمة المقلقة، أنجزه للمرة الأولى ليصدره عام 1965م، وها هو اليوم بعد خمسة عقود يعود إلى وليده الأول يتلوه علينا، ويشرفني بأن أضيف له تقديماً أقف به إلى جانب مريديه المهمين، وهو الذي يستحقه، وأن تكون له طباعة ثانية، وها نحن معاً نفعلها.
طبعاً هذا الانسياب يخص شاعرنا الملهم زهدي خليل صاحب الهم الإنساني الذي لا يخص وطنه الصغير فقط، وإنما ذاك الوطن الواقع بين المحيط والخليج، هذا الهم الذي قدمه بلغة ثنائية حملت الجدية العالية في الطرح والحب الحالم، وتراوحت بين الحداثة وآمالها والواقعية، وما فيها من متاهات، ليظهر من خلالها أسلوبه النوعي في طرح ما يريد، يختلف به عما كان يراد، فترى مناجاته تصل فضاءات الحياة، يطرحها من مرافئ الرجاء المتعددة، يضيء ذاته من عاليها، مشعلاً عذاباته، يستدعي البدايات، يسقطها على النهايات، فَلاحٌ ينتظر ماء كانون لا شمسها، ينشد الخصب بنظرات تذيب الأحزان، تنهي حرائق العقول، وتمسح العار عن جباه المؤمنين، حيث الثبات والحركة إلى الأمام، وحدهما ينهيان الفرار والفراغ، يوقفان الرياح، ويكسران الخناجر الغادرة، واستباحة قايين لهايين، يلد الصبح من أجنحة الغراب، يتقدم معه الحب، يطالبنا بأن نحبه.
شاعرنا تواق للحبِّ الكبير الذي لا يحده بالأسوار، لأنه الزمن، والزمن لا حدود له مما مضى، وإلى ما سيظهر من المستقبل، فكان وكأنه جداره، حرك نسيجه الشعري عليه ومنه روحاً وألقاً وطلباً من الآخر أن يمر ليس ببصره فقط عليه، بل ببصيرته، ليجد ويكتشف تلك العشقية الشفافة المتحدة بين ذاته وحضوره، فهو زهد كل واحد منا، لذلك دعوه بزهدي، وخليل أمين لروح أفكاره، فكانت سلالته من الخليل، نعم وحقاً أدعوكم لحمل ديوانه ووضعه على خط البصر، لتكتشفوا أنه بعد خمسين عاماً من طبعته الأولى تدخل طبعته الثانية علينا، وكأن به ينسجها الآن، والفرق حيث لا فرق أنه في عامه الثاني والثمانين من العمر، فأطلب من القدير له العمر المديد، وأطالبه معكم بأن يكون منه دائماً الجديد.
مع فائق الاحترام والتقدير
د. نبيل طعمة
|